عام التفكير السحري

كنت ابحث في المكتبة عن كتب جديدة اقتنيها عندما لفت انتباهي العنوان وترددت لأنني لم أجد مراجعات منشورة عنه، لذا عزمت على كتابة تقرير فور انتهائي منه ولم اتوقع أن يشدني واقرأه في يوم واحد.
تنقل المؤلفة التجربة المؤلمة التي تعرضت لها والمتمثلة في فقدانها لزوجها الكاتب (جون غريغوري) أمامها بشكل مفاجيء وكيف تبدلت حياتها في لحظة، تكتب عن صدمة الموت وتقبل المحيطين وتعاملهم مع خبر موت أحباءهم  ( أعرف لماذا نحاول أن نُبقي أمواتنا أحياءً: نحاول أن نبقيهم على قيد الحياة ليستمر وجودهم في حياتنا.. لنبقى نحن أحياء. أعرف أيضاً أننا إذا ماأردنا نحن أنفسنا أن نحيا يأتي وقت يتوجب فيه علينا أن نتخلى عن موتانا، أن نعتقهم من تعلقنا بهم، أن ندعهم وشأنهم، أن نسمح لهم بالموت).

 نقلت بصدق ماتعرضت له ولم يكن الكتاب من نوع القوالب الجاهزة على شاكلة التسلح بالصبر وادعاء القوة وتجاوز الحدث بالنسيان. على العكس فـ (جوان ديديون ) استغرقت عام كامل لمحاولة فهم ماحدث ( رأيت صورة لجون ضمن فقرة ” تخليداً لذكرى من رحلوا” عندما رأيت صورته تلك يعتبروه ميتاً. لقد تركته يُدفن حياً ) وأزعجها ظهور خبر وفاته في الصحف إلى تلك الدرجة. كما أنها  قاومت فكرة موت زوجها برفضها التبرع بأعضاءه أو حتى أحذيته ” كيف سيكون بإمكانه العودة إذا أخذوا أعضاءه؟ كيف يمكنه العودة إن لم يكن لديه حذاء؟”.
وعلى الرغم من أن زوجها كان يعاني من مرض عضال من جهة وله تاريخ وراثي عائلي مع هذا النوع من الوفيات من جهة أخرى، إلا أن الإنسان يظل يستبعد قدر الإمكان أن تحدث له هذه الحادثة ويحاول قدر الإمكان أن يفكر دائماً في كون المصائب في منأى عن الحدوث له فمثلاً عندما جمعت أرقام الطوارئ تقول” لم أكن قد دوّنت تلك الأرقام لأنني حسبت حساب لحظة كهذه، بل دونتها لاستخدامها في حال احتاج أحد سكان المبنى إلى الإسعاف”. ورغم امتلاكها لمعلومات طبية, مثل طريقة  التأكد من بقاء الشخص على قيد الحياة إلا أنها لم تستطع الإجابة على سؤال موظف الطوارئ عبر الهاتف: (هل مازال يتنفس؟) كانت يائسة وعاجزة إلى حد الإجابة بـ (أرجوك أرسل أحداً بسرعه وحسب).
عندما تلقت الخبر وحاولت استرجاع ما حدث تذكرت أنها لم تبكي لأنها دخلت في حالة صدمة ولم تسمح لنفسها خلالها بالتركيز إلا على فكرة واحدة أن أمامها واجبات ينبغي تأديتها. لأنها في خضم دوامتها في التعامل مع فقدها كانت تخوض تجربة إضافية مع المرض الغامض لابنتها ومحاولة البحث لفهم الحالة بالكامل لذا كانت تلجأ لمجموعة من الحيل منها على سبيل المثال استرجاع أحداث من الماضي ومحاولة الغوص فيها للابتعاد عن الجو الحالي، أيضاً كانت تتنازل في بعض المواقف لأن تجربة الفقد علمتها أن كل شيء من الممكن التعامل معه.

لجأت للأدب والقراءة عن الفقد وتجارب الأشخاص وبدأت تفهم مشاعر من فقدوا وكيف يستقبل أهل الميت خبر وفاته وحدسهم قبل تلقي الخبر. استشهدت المؤلفة بقصة سيدة مات ابنها في الحرب تقول فيها: (” فتحت الباب ورأيت الرجل الذي يرتدي اللباس العسكري الكاكي وعلمت. علمت في الحال” “لكنني اعتقدت أنه طالما أنني لا أسمح له بالدخول فلن يتمكن من إخباري بما حدث ومن ثم لا شيء مما حدث يكون قد حدث” وهكذا ظل يقول لي: ” سيدتي، يجب أن أدخل” وأنا ظللت أقول له ” عذراً، لا يمكنك الدخول”).
أكثر شيء آلمها أنها لم تكن قادرة على التعبير عن ما حدث لها وهي الكاتبة ولم تستطع تدوين الوقائع إلا بعد عدة شهور بكلمات مقتضبة ” بسرعة تتغير الحياة, بسرعة تتبدل الحياة”  لأنها في داخلها كانت تقاوم فكرة تقبل الموت, مع أنها في الظاهر لم تكن لتكشف هذه الشخصية ” على السطح بدوت شخصاً عقلانياً. كنت أبدو لمن يراني مدركةً تماماً لحقيقة أن الموت غير قابل للنقض”
لم تتعافى من الفقد مباشرة بل استغرقت عاماً كاملاً ظلت تستذكر في كل يوم منه ما حدث في العام السابق ونقلت مشاعرها المختلطة من شهر إلى آخر ورحلتها للتعافي. حتى إذا مر عام وأكثر كانت قادرة على بداية جديدة بعيداً عن لوم الذات وتحمل الذنب فيما حدث لها.


اقتباسات:
⁃ ألم الفقدان أمر مختلف. ليس لألم الفقدان مدى يأتينا ألم الفقدان على أمواج، يضربنا على هيئة نوبات تتواتر، يهجم علينا في لبوس مخاوف تُنهك أجسادنا وتُعمى أبصارنا وتطمس معالم حياتنا اليومية. السواد الأعظم ممن اختبروا ألم الفقدان في حياتهم يشيرون إلى ظاهرة “الأمواج” تلك.
⁃ الأشخاص الذين فقدوا عزيزاً تميزهم نظرة معينة تُرى على وجوههم خلال الفترة القصيرة التي تعقب الفجيعة نظرة قد لا يدركها سوى أولئك الذين قد ارتدوا هذه النظرة ورأوها على وجوههم. كنت قد لاحظت تلك النظرة على وجهي كما لاحظتها على وجوه آخرين. نظرة مليئة بالضعف، بالعري، بالضياع.
⁃ اتضح أن ألم الفقدان هو مكان لايمكن لأحد أن يدرك كنهه إلا بعد أن يصل إليه

هذه المقالة كُتبت في التصنيف حياةُ أخرى. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.